فصل: مسألة خلط اللحم السمين بالمهزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة خلط اللحم السمين بالمهزول:

وسئل عن الجزار يكون عنده اللحم السمين، واللحم المهزول فيخلطهما جميعا فيبيعها بوزن واحد مخلوطا، والمشتري يرى ما فيه من المهزول والسمين، غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا، قال ابن القاسم: إذا كانت الأرطال اليسيرة الخمسة والستة، ومثل ما يشتري الناس على المجاز بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلا أرى به بأسا، وإن كثرت الأرطال مثل العشرين والثلاثين وما أشبه ذلك فلا خير فيه، وأرى أن يمنع الجزارون من مثل هذا أن يخلطوا السمين والمهزول، وأراه من الغش، ولا أرى ذلك يجوز لهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيوع لا تنفك عن الغرر اليسير فهو مستخف فيها مستجاز، ومن الدليل على ذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن بيع الغرر،» والبيع لا يوصف بأنه بيع غرر حتى يكون الغرر ظاهرا فيه وغالبا عليه، وإنما يجوز شراء الأرطال اليسيرة من اللحم المخلوط السمين بالمهزول إذا اشتراه كله، فرأى ما فيه من السمين والمهزول، وإن لم يعرف حقيقة ما يقع من هذا؛ لأن الغرر في هذا خفيف يسير، فأما إن كان إنما يشتري منه وزنا معلوما على أن يعطيه إياه من السمين والمهزول وهو لا يدري قدر ما يعطيه من كل واحد منهما، ولا يراه حتى يزنه فلا يجوز قليلا كان أو كثيرا، إلا أن يقع شراؤه على أنه في الخيار فيه حتى يفرزه ويزنه، وعلى هذا المعنى يجوز عندنا شراء التين الأخضر على العد؛ لأنه لو اشترى منه من جملة تينه مائة تينة في التمثيل على أن يعدها له البائع، أو على أن يعدها المبتاع لنفسه ليختارها لم يجز لأن البيع إن وقع بينهما على أن يعدها له البائع كان غررا، إذ لا يدري المبتاع ما يعطيه البائع لأنه يتفاوت تفاوتا بعيدا في الصغر والكبر والنضج والطيب، وإن وقع بينهما على أن يعدها المبتاع لنفسه ويختار دخله التفاضل فيما لا يجوز التفاضل فيه، وبيع الطعام قبل استيفائه؛ لأنه مخير بين أن يأخذ الصغير أو الكبير فكأن قد باع أحدهما بالآخر، فلا يجوز البيع في ذلك إلا على أن يكون المبتاع بالخيار حتى يعد له ما يعد فإن رضي أخذ وإلا ترك، وهذه المسألة تحمل على جواز صبرتين صغيرتين مختلفتين في الجودة، أو في النوع على كل واحد، فإن كانتا كبيرتين لم تجز لأنه خطر، إذ لا يدرى قدر ما في كل واحدة، فإن كثرت الجيدة غبن البائع، وإن قلت غبن المشتري، فإن صغرتا حتى يعلم قدر كل واحدة جاز على ما قال في اللحم، فهو قياسه، وبالله التوفيق.

.مسألة خلط الزيت الرديء بالجيد:

وسألته: عن الرجل يخلط الزيت الرديء بالجيد، والقمح الرديء بالجيد، هل يحل شيء من هذا؟ قال ابن القاسم: لا خير في هذا ولا يحل، وهذا من الغش فلا يحل، وإن كان يريد أن يبين إذا باع فلا خير في ذلك، ولا يحل له خلطه، ولا أدري كيف سألت عن هذا؟ وقال لي مالك مرة في شيء سألته عنه: أنت حتى الساعة هاهنا تسأل عن مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن خلط الجيد بالرديء للبيع من الغش الذي لا يجوز لأحد أن يفعله، وإن بين عند البيع أنه مخلوط، وينبغي للإمام أن يمنع منه ويضرب عليه، فإن فعل كان للمشتري أن يرد وإن بين أنه مخلوط جيد برديء، إلا أن يبين مقدار الرديء الذي خلطه بالجيد وصفتهما جميعا قبل الخلط حتى يستوي علمهما فيه، فلا يكون للمشتري حينئذ أن يرد، ويكون هو قد باء بالإثم في خلطه، إذ قد يغش به غيره؛ لأنه مما يمكن الغش به، وإنما يجوز له أن يبيعه على هذا البيان التام ممن يعلم أنه لا يغش به، أو ممن لا يدري ما يصنع به، ويكره له أن يبيعه ممن يخشى أن يغش به، ولا يجوز له أن يبيعه ممن يعلم أنه يغش به على ما مضى القول فيه في رسم الرهون.
وهذا في الصنف الذي يختلط ولا يمتاز بعد الخلط جيده من رديئه كالزيت والسمن والعسل وشبه ذلك، وأما الصنفان اللذان يمتازان بعد الخلط إلا أنه لا يعلم مقدار كل واحد منهما من صاحبه كالقمح والشعير، أو السمن والعسل أو الغلث والطعام وما أشبه ذلك فإن كان أحد الصنفين منهما يسيرا جدا تبعا لصاحبه جاز أن يبيع ولا يبين؛ لأن المشتري يراه ويعرفه، وإن لم يكن أحدهما يسيرا ولا تبعا لصاحبه، فلا يخلو من أن يكون يمكن تمييزه أو لا يمكن تمييزه، فإن كان مما يمكن تمييزه كالغلث مع الطعام، واللحم السمين مع المهزول وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن يباع الكثير من ذلك على ما هو عليه حتى يميز أحدهما عن صاحبه، ويجوز أن يباع القليل منه على ما هو عليه على ما قاله في المسألة التي قبل هذه في اللحم السمين والمهزول، وإن كان مما لا يمكن تمييز أحدهما من صاحبه كالسمن من العسل، والقمح من الشعير، والماء من اللبن، وما أشبه ذلك ممن يأكله ويؤمن أن يغش به.
قاله ابن حبيب في الواضحة في اللبن والعسل المغشوش بالماء، وقيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول مالك في الواضحة.
وكتاب ابن المواز: أن من خلط قمحا بشعير لقوته فيكره له أن يبيع ما فضل له منه، يريد إلا أن يبين مقدار الشعير فيه من القمح، وقيل: إن كان خلطه للبيع لم يجز أن يبيعه، وإن كان خلطه للأكل جاز له أن يبيعه، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه لا يجوز له أن يبيعه إلا أن يكون يسيرا خلطه للأكل، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة البدوي يبعث للحضري بمتاع يبيعه له هل يصح:

وسألته: عن البدوي يبعث إلى الحضري بمتاع يبيعه له، هل يصلح له ذلك؟ قال ابن القاسم: لا يصلح أن يبيعه له، ولا يشير عليه في البيع إن قدم، ولا بأس أن يشير عليه في الاشتراء، وأن يشتري له، وأن يجهز له عليه، ورواها أصبغ، وقال: لا بأس أن يشتري لرسوله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه لا يجوز له أن يبيع له متاعه الذي بعث به، كما لا يجوز له أن يبيعه له إذا قدم به؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى أن يبيع حاضر لباد» فعم ولم يخص حاضرا من غائب، فوجب أن يحمل على عمومه في الوجهين الاشتراء لرسوله يجوز كما يجور الاشتراء له، وقد مضى القول على ذلك في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة لا بأس أن يقطع الرجل الدنانير والدراهم حليا لنسائه:

ومن كتاب القطعان:
وقال ابن القاسم: لا بأس أن يقطع الرجل الدنانير والدراهم حليا لبناته ونسائه، وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الكراهية في قطع الدنانير إنما هي لما يوجب ذلك من فساد النقود التي يبتاع الناس بها، وقد مضى في رسم شك في طوافه، ورسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف بيان ما لا يجوز من ذلك وما يكره وما يجوز منه وما يتفق عليه من ذلك، وما يختلف فيه، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هاهنا، فقطعها ليعمل منها حلي خارج عن ذلك كله جائز باتفاق، ولا وجه للكراهية فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يعمل الدوامات للصبيان يبيعها منهم:

وسئل ابن القاسم: عن الذي يعمل الدوامات للصبيان يبيعها منهم، فقال: أكرهها له.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك له من أجل بيعه إياها من الصبيان، ولا يدري هل أذن لهم في ذلك آباؤهم أم لا؟ إلا أنه لما كان الأظهر أنهم مطلقون على ذلك ليسارة ثمنه، كرهه ولم يحرمه، ولو علم رضا آبائهم بذلك لم يكن لكراهيته وجه، وإن اللعب مباح لهم لا يمنعون منه، قال ذلك ابن شعبان وهو صحيح، لقول الله تعالى، حاكيا عن إخوة يوسف لأبيهم في يوسف أخيهم: أرسله معنا غدا نرتع ونلعب، وبالله التوفيق.

.مسألة السوق وما يباع فيه هل يقوَّّّّّّّّّم على أهله:

ومن كتاب أوله باع شاة:
وسئل عن السوق وما يباع فيه، هل يقوم على أهله؟ قال ابن القاسم؛ قال مالك: لا يقوم عليهم شيء، وإنما يصنع فيه كما صنع عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، قلت: فالبقول والكراث والبصل والزيت والعسل واللحم وجميع الأشياء لا يقوم عليهم شيء من ذلك؟ قال: لا، قلت: لا على أصحاب الحوانيت ولا على غيرهم؟ قال: نعم، لا على أصحاب الحوانيت ولا غيرهم، وإنما يقال لمن حط السعر وأدخل على الناس فسادا: إما أن تلحق بأسعار الناس وإما أن ترفع من سوقنا.
قلت: فلو أن واحدا قام واللحم ثلاثة أرطال فباع أربعة، هل يقام له الناس؟ قال: لا يقام له الناس، لا لواحد ولا لاثنين ولا لثلاثة ولا لأربعة ولا لخمسة، ولو رفع لواحد لاشترى سلع الناس بحكمه، إذ لا يبيع معه أحد، فيدخل على الناس في ذلك ضرر، ولكن يبيع هو ويبيع الناس معه، ولا يقام لواحد، وإنما يقام الواحد والاثنان إذا كان جل الناس على سعر، فقام الواحد أو الاثنان فحطوا من السعر فأدخلوا الفساد فأولئك يقامون من السوق أو يلحقون بسعر الناس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.

.مسألة الأجذم الشديد الجذام أيحال بينه وبين وطء رقيقه:

ومن كتاب العتق:
وسئل ابن القاسم: عن الأجذم الشديد الجذام، أيحال بينه وبين وطء رقيقه؟ فقال: نعم، إذا كان في ذلك ضرر، رأيت أن يمنع من ذلك، وإنما فرق بينه وبين الحرة حين حدث ذلك به، وهي عنده لموضع الضرر، وسئل عنها سحنون غير مرة، فقال: لا أرى أن يحال بين الأجذم ووطء إمائه.
قال محمد بن رشد: قياس ابن القاسم الأمة في هذا على الحرة صحيح، فهو أظهر من قول سحنون، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه أذى»، وما نهى عنه رسول الله، وقال فيه: إنه أذى فالمنع منه واجب، وقد مر عمر بن الخطاب بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله، لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست.
وإذا وجب بهذا وما أشبهه من الأحاديث أن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الإذاية لهم والضرر بهم كان منع الرجل المجذوم من وطء إمائه أوجب؛ لأن الضرر بذلك عليهن أكثر، ووجه قول سحنون إن المجذوم يحتاج إلى النساء، فرأى الضرر الداخل على المجذوم في ترك وطء إمائه أكثر من الضرر الداخل عليهن في وطئه إياهن، إذ قد يئول ذلك به إلى العنت، فرأى ألا يحال بينه وبين ذلك لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا اجتمع ضرران نُفِيَ الأصغر للأكبر»، وبالله التوفيق.

.مسألة الإجبار على هدم الجدار المائل:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن جدار رجل بين داره ودار جاره مال ميلا شديدا حتى خيف انهدامه، أترى للسلطان إذا شكا، ذلك جاره وما يخاف من ضرره وإذائه أن يأمر صاحبه بهدمه؟ فقال: نعم، ذلك واجب عليه أن يأمره بهدمه، قلت: فعلى من بنيانه؟ قال: يقال لجاره إن شئت فاستر على نفسك أو دع، ولا يجبر صاحب الجدار على بنيانه، قيل له: أيبني جاره ما يستتر به في موضع الجدار؟ فقال: ليس ذلك له، وإنما يقال له: إن شئت أن تبني في أرضك وحوز دارك وتستر وإلا فدع.
قيل: فإن شكا إليه ما يخاف من انهدام الجدار فلم يهدمه حتى انهدم على إنسان أو دابة أو بيت لضيق به، فقتل أو هدم ما سقط عليه أيضمن ذلك صاحب الجدار؟ قال: نعم، يضمن كل ما أصاب الجدار بعد الشكاية إليه والبيان له.
قال يحيى: وإن لم يكن ذلك بسلطان فإنه ضامن إذا تقدم إليه وأشهد عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إن الحائط إذا هدمه بأمر السلطان خوف سقوطه أنه لا يلزمه إعادته، خلاف قوله في سماع يحيى من كتاب الأقضية، ومثل قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى منه، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذا المعنى فلا وجه لإعادته.
وقول يحيى إنه ضامن لما أفسد الحائط إن انهدم بعد التقدم إليه والإشهاد عليه، وإن لم يكن ذلك بسلطان مفسر لقول ابن القاسم، ومثل ما في المدونة.
وقد قيل: إنه لا ضمان عليه إلا فيما فسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان بهدمه ففرط في ذلك، وهو قول عبد الملك، وقول ابن وهب في سماع زونان بعد هذا من هذا الكتاب، وقد قيل: إنه ضامن لما أصاب إذا تركه بعد أن بلغ حدا كان يجب عليه هدمه وإن لم يتقدم في ذلك إليه ولا أشهد عليه، وهو قول أشهب وسحنون.
وما أصاب الجمل الصئول والكلب العقور في الموضع الذي يجوز اتخاذه فيه يجري على هذا الاختلاف، والضمان في ذلك لا يتعدى المال إلى العاقلة عند ابن القاسم، كذلك روى عيسى عنه في رسم لم يدرك من كتاب الديات، وهو ظاهر قوله في ظاهر هذه الرواية، وروى زونان في سماعه عن ابن وهب أن العاقلة تحمل من ذلك الثلث فصاعدا، وهو قول مالك، رواه عنه أشهب وابن عبد الحكم، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يفتح في جداره الكوة إلى الدار فيحجبها آخر:

ومن كتاب المدينين:
قال: وسئل: عن الرجل يفتح في جداره الكوة إلى الدار أو الزقاق للضوء والشمس فيبني رجل آخر جداره فيرفعه حتى تظلم تلك الكوة أو لا تدخلها الشمس.
قال مالك: ذلك له، لا يحال بينه وبين ذلك، ولو كان ذلك لا يجوز كان أول ما يفتح الكوة تسد عليه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة، وفي ذلك اختلاف قد مضى تحصيله وذكره في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الأقضية فأغنى ذلك عن إعادة ذكره هاهنا، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته:

ومن سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم: عن الذي يبيع على بيع أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه، أو يتلقى الركبان فيشتري منهم، أو يبيع حاضر لباد.
قال: أما إذا باع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه لم أر أن يفسخ، ورأيته أن يؤدب صاحب هذا، وأما أن يبيع حاضر لباد، فأرى أن يمضي البيع وأن يؤدب أهله، وأما إذا تلقى الركبان فإني أرى أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها به، فإن أخذوها وإلا ردوها عليه، ولم أردها على بائعها، وأؤدبه ضربا وجيعا إلا أن يغرر بالجهالة، وقال غيره: تفسخ هذه الأشياء كلها وترد السلع على أربابها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم يوصي من سماع عيسى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.

.مسألة بيع العنب ممن يعصره خمرا:

وسئل: عن الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا أو يكري حانوته ممن يبيع الخمر، أو يكري دابته إلى الكنيسة، أو يبيع شاته ممن يذبحها لأعياد النصارى، قال: أما بيع العنب من يعصره خمرا، أو كراء البيت ممن يبيع الخمر، فأرى أن يفسخ الكراء ويرد البيع ما لم يفت، فإن فات تم البيع ولم أفسخه، وأما كراء الدابة، وبيع الشاة فإنه يمضي ولا يرد، وقد اختلف في كراء الدابة قول مالك، فمن ثم رأيت له ذلك.
وبلغني عن أشهب أنه سئل عن الذي يبيع كرمه من النصراني، فقال: أرى أن تباع على النصراني، بمنزلة شرائه العبد المسلم.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا أو يكري حانوته ممن يبيع فيه الخمر إن الكراء يفسخ، والبيع يرد ما لم يفت، فإن فات مضى ولم يفسخ، من أجل أنه بيع وكراء لا غرر فيه ولا فساد في ثمن ولا مثمون، فأشبه البيع الذي طابقه النهي، كالبيع يوم الجمعة بعد النداء، وبيع الحاضر للبادي، وما أشبه ذلك من البيوع التي لا تجوز مع سلامتها من الغرر والمجهول، فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في هذه البيوع، قيل: إنها تمضي بالثمن إذا فاتت، وقيل: إنها ترد إلى القيمة، وقيل: إنها لا تفسخ وإن كانت قائمة.
فعلى قياس هذا القول لا يفسخ بيع العنب ممن يعصر خمرا، ولا كراء الحانوت ممن يبيع فيه الخمر وإن أدرك قبل الفوت، فإن كان المشتري نصرانيا منع من بيع الخمر في الحانوت، وبيع عليه العنب، وإن كان مسلما منع من جميع ذلك ولم يفسخ منه شيء، وقال: إن البيع إذا فات تم ولم يفسخ، ولم يتكلم على ما يجب على البائع والمكري في الثمن والكراء، فأما ثمن العنب فيسوغ له، إلا أن يكون ازداد فيه بسبب بيعه للعصر فيجب أن يتصدق بالزيادة، وأما الكراء فيتصدق بجميعه، قيل: لأنه لا يحل له كثمن الخمر، وقيل: أدبا له، لا من أجل أنه عليه حرام كثمن الخمر، وهو ظاهر هذه الرواية.
وسواء في العنب باعه ممن يعصره خمرا بتصريح، أو باعه منه وهو يعلم أنه يعصره خمرا.
وأما كراء البيت فقال ابن حبيب فيه:
إنه إن أكراه وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر لهم، يفسخ الكراء بخلاف العنب، والفرق بينهما عنده أن العنب يغاب عليه فلا يمكن منعه من عصره، بخلاف بيع الخمر في الحانوت، وقال ابن القاسم: يفسخ الكراء في الحانوت إذا أكراه وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، كما يفسخ البيع في العنب إذا باعه ممن يعلم أنه يعصر خمرا، وقد مضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد وجه اختلاف قول مالك في كراء الدابة وبيع الشاة والحكم في ذلك إذا وقع، فمن أحب الوقوف عليه هناك تأمله هناك، وقياس بيع الكرم من النصراني على بيع المسلم منه صحيح قاسه أشهب عليه، فقال: إنه يباع عليه على مذهبه في أنه يباع عليه العبد المسلم إذا اشتراه ولا يفسخ فيه البيع، وقاسه سحنون عليه في نوازله من كتاب جامع البيوع فقال: إن البيع يفسخ على مذهبه في أنه إذا اشترى العبد المسلم فسخ البيع فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله فيزيد في المكائل:

ومن سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد: سألت ابن القاسم: عن الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله فيزيد في المكائل، قال: إن كان في ذلك للمسلمين نظر بموافقة حق لا يكره الناس على البيع به فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه إذا كان في ذلك نظر للمسلمين بموافقة حق كان له أن يفعله، وأما قوله: لا يكره الناس على البيع به ففيه نظر؛
لأن له أن يحمل الناس على التبايع به إذا رأى ذلك نظرا للمسلمين، فمعنى قوله لا يكره الناس على البيع به، أي: لا يحجره جملة حتى لا يجيز لأحد بيعا إلا به، وبالله التوفيق.

.مسألة الدابة الصئول تعدو على الصبي المملوك فتقتله:

من سماع عبد الملك بن الحسن قال عبد الملك: سألت ابن وهب: عن الدابة الصئول تعدو على الصبي المملوك فتقتله، وقد كان جيران صاحب الدابة شكوا إلى صاحبها أمر دابته وما كانوا خافوا منها على صبيانهم وأنفسهم قبل ذلك، وتقدموا واستنهوا منها فلم يبعها حتى عدت على صبي مملوك فقتلته، أو كانت مربوطة أو أفلتت من رباطها فقتلت الصبي، أو كان سلطان تقدم إلى صاحب الدابة حين استنهى جيرانه منها، وقال له: إن آذت بعد يومها هذا ضمنتك ما آذت فيه، فهل الأمران واحد إذا قدم السلطان إليه أو جيرانه أو أشهدوا عليه؟ وهل يضمن صاحب الدابة ما عقرت دابته بعد هذا؟ فقال: الدابة الصئول عندي في هذا بمنزلة الكلب العقور، لا ضمان على ربها حتى يتقدم إليه السلطان، فإذا تقدم إليه بعد المعرفة بالصئول والعقر فلم يحبسها عن الناس، أو يغربها عنهم فعقرت ضمن، وهو قول مالك في الكلب على ما وصفت لك، فإن كان دون الثلث ففي ماله، وما كان الثلث فصاعدا حملته العاقلة، وهو من الخطأ إن كان المعقور حرا، وإن كان عبدا ففي مال رب الدابة والكلب على كل حال.
وقول أشهب: لا ضمان على صاحب الدابة على أي الوجوه، كان تقدم السلطان إليه أو استنهى جيرانه منه.
قال محمد بن رشد: قوله: لا ضمان على صاحبها حتى يتقدم إليه السلطان خلاف ما في المدونة وخلاف ما مضى في سماع يحيى قبل هذا من أنه يضمن إذا أنهى إليه وأشهد عليه وإن لم يكن ذلك بسلطان، وقيل: إنه ضامن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه، قاله أشهب وسحنون في الحائط إذا بلغ مبلغا يجب عليه هدمه فتركه، وكذلك يجب على مذهبهما في الدابة الصئول والكلب العقور إذا علم بحالهما فلم يغربهما ولا حبسهما حتى عديا على أحد فقتلاه.
وقول أشهب هاهنا في الدابة قول رابع في المسألة. ووجهه: أنه حمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جرح العجماء جبار» على عمومه في كل حال.
وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا حبس الدابة الصئول حيث يجوز له حبسها فيه، واتخذ الكلب العقور حيث يجوز له اتخاذه فيه، وأما إن اتخذ الكلب العقور أو حبس الدابة الصئول حيث لا يجوز له فهو ضامن لما أصابا، وإن لم يتقدم إليه قولا واحدا، وقد مضى في سماع يحيى ذكر الاختلاف في هل تحمل العاقلة من ذلك في الأحرار ما بلغ الثلث، فلا معنى لإعادته.

.مسألة وجد في زرعه مهرين فساقهما إلى داره فأدخلهما داره فتلفا:

قال: وسألت ابن وهب: عن رجل وجد في زرعه مهرين فساقهما إلى داره فأدخلهما داره، فلما كان من جوف الليل خرقا داره أو خرقا زرب الدار فخرجا منها فعقرتهما السباع، فهل يضمنهما الذي ساقهما إلى داره؟ أو إن كانا في داره وعقرهما السبع في الدار أيضمنهما صاحب الدار؟ قال: أراه ضامنا إذا عقرا أو أصيبا في الأمر الذي سببه وأصله منه، ولم يكن له سوقهما وحبسهما في داره، وإنما له إتيان السلطان إذا كان السلطان قريبا والاستنهاء إلى صاحبهما أو ردهما عن زرعه، فإذا ترك ذلك وساقهما إلى داره وربطهما أو حبسهما فأراه متعديا، وأرى عليه ضمانهما إن أصيبا في ذلك، وقال أشهب: فهو ضامن لهما أبدا حتى يرجعا إلى صاحبهما ماتا في داره أو عقرا خارجا من داره.
قال محمد بن رشد: قول أشهب مثل قول ابن وهب، فلو قال فيه وقال أشهب مثله لكان أحسن، والمسألة كلها بينة لا موضع للقول فيها إلا قوله: إنما له إتيان السلطان إن كان السلطان قريبا.
فمعناه: إذا كان الإذاء والرعي في الليل أو بالنهار في موضع لا يصح إهمال الأنعام والمواشي فيها دون راع يذودها.
وأما إذا كان ذلك بالنهار في موضع لأصحاب المواشي إهمال مواشيهم فيه دون رعاة يرعونها وذواد يذودونها، فليس له إتيان السلطان ولا رفع الأمر إليه؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن على أهل الحوائط والزرع حفظهما بالنهار، وأن على أهل المواشي حفظها بالليل، فما أفسدت فيه ضمنوه، وقد مضى بيان هذا والقول فيه في رسم كتاب الأقضية لابن غانم من سماع أشهب من كتاب الأقضية فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يبني في داره غرفة فيفتح لها بابا على دار جاره فيشتكي جاره:

قال: وسألت ابن وهب: عن الرجل يبني في داره غرفة فيفتح لها بابا على دار جاره فيشتكي جاره ضرورة ذلك الباب، هل يمنع صاحب الغرفة من ذلك الباب ويؤمر بسده أم لا؟ قال: إن كان فتحه الباب مضرا لجاره مثل أن يكون ليس له مصرف ولا مدخل ولا مخرج إلا بالتشريف عليه والنظر في منزله والتطلع على عياله منع ولم يكن له فتحه.
وإن كان ليس كذلك، وإنما هو أمر يخاف أن يتطلع منه، وليس على ما وصفت لك لم يمنع من ذلك، وقيل له: استر على نفسك إن شئت، أو يعلم ما قلت من تطلعه فيمنع من ذلك ويزجر عنه ويؤدب عليه بعد التقدمة ولا يغلق بابه على حال، وإنما ذلك بمنزلة ظهر القصر وسطحه، والبنيان يرفعه عليه فيحتج أيضا فيقول: أخاف أن يتطلع عليَّ منه، أو الكوة يفتحها الرجل في منزله للضوء والروح فيحتج بمثل ذلك فليس له في ذلك حجة إذا كان على ما وصفت لك.
وقال أشهب: إذا كان يناله المار فأرى أن يمنع من ذلك حتى يرفع بقدر ما لا يناله، وإن نظر منه المار لم يكن ذلك له، فإن تطلع منه أو تشرف لغير حاجة فإنه يمنع من ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب إن كان فتحه الباب مضرا بجاره مثل أن يكون ليس له مصرف ولا مدخل إلا بالتشريف عليه والنظر في منزله والتطلع على عياله منع، هو مثل قول أشهب إن كان يناله المار فأرى أن يمنع، ومثل ظاهر ما في كتاب حريم البير من المدونة على معنى ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه كتب في ذلك أن يوضع وراء تلك الكوة سرير ويقوم عليه رجل فإن كان ينظر إلى ما في دار الرجل منع من ذلك، وإن كان لا ينظر لم يمنع من ذلك؛ لأن الأسرة مما يتخذها الناس في بيوتهم، فإذا كان من قام عليها اطلع على جاره منع من ذلك، فالمعنى في هذا كله أن ما كان من الاطلاع لا يصل إليه المطلع إلا بكلفة ومئونة وقصد إلى الاطلاع بتكلف صعود لا وجه له إلا ذلك لم يمنع من ذلك، وقيل للذي يشكو الاطلاع: استر على نفسك، فإن أثبت عليه أنه اطلع عليه بقصد إلى ذلك كان حقا على الإمام أن يؤدبه على ذلك ويزجره حتى لا يعود إليه.
وقد أفتى الشيوخ عندنا فيمن فتح في قصبة له بابا لا يطلع منها على دار جاره إلا بأن يخرج رأسه من الباب ليطلع أو يخرج إلى السقف بين يدي الباب، أو يجعل على الباب شرجيا وثيقا يمنع من أن يخرج منه إلى السقف، أو يخرج أحد منه رأسه ليطلع، وهو حسن من الفتوى، فإذا ثبت الاطلاع فقيل: يحكم بسده وإزالة أثره لئلا يكون له بعد مدة دليلا على القدم فيكون له إعادته، يقوم ذلك من قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الأقضية.
وقال ابن الماجشون في الواضحة: لا يلزمه سده، ويكون له أن يجعل أمام ذلك ما يستره ويواريه، وقد قيل: إن الاطلاع ليس من الضرر الذي يجب قطعه على حال، وعلى الذي يطلع عليه أن يستر على نفسه بما يقدر عليه، وقد ذكرنا ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الأقضية، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
وإنما يمنع من ضرر الاطلاع ما كان محدثا، قال في كتاب تضمين الصناع من المدونة: ومن كانت له على جاره كوة قديمة أو باب قديم فليس له سد ذلك عليه، وإن لم يكن له في ذلك منفعة وعليه فيه مضرة، وكذلك قال ابن الماجشون: إن الأبواب والكوى التي يطلع منها إن كانت قديمة قبل بناء الدار المطلع عليها لم يمنع من ذلك.
قال: ولو أراد صاحب العرصة أن يمنعه من فتح باب على عرصته قبل بنائها لضرر ذلك عليه إذا بنى لم يكن ذلك له، وقال مطرف: له أن يمنعه قبل البناء وبعده؛ لأنه حق له يذب عنه.
قال: ولو ترك أن يمنعه قبل أن يبني كان له أن يمنعه إذا بنى ولا يكون تركه الذب على حقه قبل أن يبني مانعا له منه إذا بنى إلا أن يكون صاحب العرصة اشتراها على ذلك، فليس له أن يسدها عليها، وإنما له أن يمنعه من الإحداث.
وقال أصبغ بقول مطرف، واختاره ابن حبيب، واختلف على معنى ما في المدونة إن أشكل هل هو قديم أو حادث؟ ففي أحكام ابن زياد أنه محمول على أنه محدث حتى يثبت أنه قديم، وفي كتاب ابن سحنون أنه محمول على أنه قديم حتى يثبت أنه محدث، والله تعالى الموفق.